صحافة استقصائية

مرضى الفشل الكلوي ..الغسلة الأخيرة مكوية بفساد وإهمال حكومي متعمد ؟!

الطفل قايد احد مرضى الفشل الكلوي القادمين من ردفان

الثلاثاء - 27 فبراير 2018 - الساعة 08:22 م بتوقيت اليمن ،،،

البعد الرابع : نادر الصوفي

على عتبات بوابة مبنى مركز الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهورية بالعاصمة عدن ، تتبدأ مأساة عشرات  المرضى الواقفين على ابواب المشافي في انتظار الموت .

ففي تمام الساعة الخامسة فجراً تفتح ابواب مركز غسيل الكلى التابع لمستشفى الجمهورية ، وقبل الموعد يتجمع عشرات من المرضى الباحثين عن غسلة تبقيهم ليوم اخر على قيد الحياة.

في انتظار دور غسيل الدماء المختلطة بالسموم المتراكمة بفعل تراكم ساعات الانتظار الطويلة ، ينظر مرضى الغسيل بعيون تحدق بكثير من اليأس وقليلاً من الأمل صوب بصيص أمل ينبعث ، كل ما وعد أحدهم بغسله جديدة تعيد لهم انفاس الحياة المهدورة عبثاً جراء الإهمال الحكومي وعسر الحال .



فريق "البعد الرابع" تجرع مرارات الألم والأمل مع عشرات المرضى بمجرد دخولهم مبنى الغسيل الكلوي في مشفى الجمهورية ، تبادلنا نظرات الأمل وتجرعنا ويلات الألم مع كثير من المرضى بمجرد وصولنا صالة الأستقبال .

ابتسامات حزينة ، تلخص قتامة المشهد القائم  حالها يقول "أجل نحن  نشعر بكم  بأوجاعكم" ،وعلى مقربة من المرضى تتخير الجلوس  بأحد المقاعد المجاورة للمريض "غسان علي حمود" ، من ابناء محافظة الضالع ، مريض فشل كلوي ينحدر إلى أسرة فقيرة ، ثلاثة اشخاص منهم يعانون نفس المرض الوراثي ،وبدون مقدمات تبادلنا معه  الكلمات ، لحظتها فقط يمكنك ان تتذوق المعاناة بمراره ، حين تكتشف ان مرض الاخوه الثلاثة الوراثي يرجع إلى  خلل في عمل الكلى أدى  في النهاية إلى الفشل الكلوي.

صديقنا المريض "غسان" اختصر الكلام والأمنيات قائلا :" كل  ما نحتاجه هو مركز للغسيل  في مدينة الضالع، ومعاناتنا الحالية تتضاعف مرتين ،أولها السفر من الضالع ، وثانيها أوجاع المرض ممزوجة بالانتظار".

غسان ومثله العشرات من أبناء المحافظات المحيطة جغرافياً بالعاصمة عدن ، يتوافدون إلى مركز غسيل الكلى في مستشفى الجمهورية ، تستقبلهم  ابتسامات الدكتورة نبيهة احمد سالم باماجد مسئول مركز الغسيل الكلوي بشكل يومي.

باماجد تقول لــ"البعد الرابع " : المركز يتحمل عبئ مرضى الفشل الكلوي في المحافظات المجاورة لعدن ، فطوال الاسبوع ونحن نعمل بجهداً مضاعف، ونظرا لزيادة اعداد الحالات للأسف الشديد نقول اننا لم نعد نستطيع ترتيب مواعيد جديدة لهم قادم الايام .

وتستمر الدكتورة نبيهة رسم الاحداث اليوميه للمرضى "في صباح يوماً جديد  وصلت الينا اكثر من 13  حالة  ينحدرون إلى  مديرية. الحبيلين ،خصص لهم  فاعل خير باص كمساعدة انسانية لينقلهم الى مركز الغسيل ، ونحن حتى نسهم في تخفيف معاناتهم خصصنا لهم وقتً إضافي يبدأ  من السادسة صباحاً حتى الساعة 1  ظهرا ، ومثلهم كل من يأتي من الأرياف المحيطة بالعاصمة عدن" .



استفحلت مأساة مرضى الفشل الكلوي ،حتى بلغ صداها المنظمات الإنسانية والصحية العالمية ، وبدورها اللجنة الدولية للصليب الاحمر ناشدت المعنيين بقولها  "آلاف اليمنيين المصابين بالفشل الكلوي ممن يواجهون خطر الوفاة يقفون على حافة الموت ما لم تتلقّ مراكز الغسيل الكلوي المتبقية في البلاد المزيد من الإمدادات، وما لم تُدفع أجور الطواقم الطبية العاملة بها" ، في ذات الوقت  مسامع السلطات اليمنية منشغلة بالإنصات لأصوات الانفجارات وتوزيع المناصب والمغانم، وكسب الخصومات السياسية ، ليبقى أنين المرضى ، محصور بين جدران مباني  مراكز غسيل الكلى المتبقية في الثلاثة الفرع المتوزعة على عدن وجميعها منزوعة الفاعلية والإمكانيات.

فعلياً  معاناة مرضى الفشل الكلوي في هذا البلد معقدة ، ويمكن وصفها بالقضية المركبة التي تحمل في جوفها اكثر من مشكلة وتتطلب اكثر من حل ، ووفقاً لوصف الدكتور احمد الجرباء الذي أكد أن القضية تكمن في إن " المرضى والدولة يعتقدون  ان العلاج يتمحور بحصول المريض على  غسلة كل يوم ، فيما ان الغسيل هو اجراء مؤقت لمدة زمنية قد تكون 3 اشهر بهدف الحفاظ على حياة المريض حتى يتمكن من ايجاد المتبرع وبالتالي يجري عملية زراعة ، أما الحقيقة ، ففي اليمن يستمر المريض سنة إلى 15 سنة وهو يجري الغسيل الكلوي والنتيجة ازدياد أعداد المرضى فيما الموازنة المالية هي ذاتها لا تلبي التطورات في اعداد المرضى".

تصبح العلاقة واضحة اذاً ، فكلما غابت الحلول الطبية المطلوبة ، كلما ارتفعت أعداد المرضى ، والحصلية كما يلخصها الدكتور الجرباء في مشفاه " لدينا في الجمهورية اعتماد مالي لمركز غسيل الكلى تساوي 18  الف جلسة في السنة، في حين أجرينا العام الماضي ، 25 الف جلسة ، ويتضح إن لدينا   7  الف جلسة عجز ، فيما  قيمة الجلسة الواحدة تكلف 44 دولار ليبلغ  إجمالي العجز المالي  308000 الف دولار في السنة ، وعلية يكون هذا الرقم في العام  القادم مضاعف".

مازلنا في صالة الانتظار داخل مبنى الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهورية ، ننتظر إكمال الإجراءات الوقائية التي يلزمك بها المسئول في الاستقبال ، تلبس أكياس "بلاستيكية" على شعر رأسك وعلى قدميك ، تفتح  الباب وتدخل صالة الغسيل  البالغة  30  متر تقريبا وعرض 10  امتار ، مزدحمة بأسرة اللمرضى التي تجاورها الأجهزة الطبية ، وجميعها موزعة على جانبي الصالة وفوق كل سرير يرقد  مريض فشل كلوي ، موصل في جسده ناقل الدم إلى الأجهزة لتعيد تنقيته دمائه وتصفيتها  لتعود إلى جسده خالية من السموم .

فيما لاتزال الدكتورة نبيهة احمد سالم باماجد مسئول مركز الغسيل الكلوي بجانبك ترافقك ، وانت تلتقط الصور للمرضى ، وبين هذه الصور صورة التقطتها عدسة البعد الرابع لأحدى المريضيات ، التي وصلنا نبأ وفاتها في وقت لاحق ، وكان خبر وفاتها صادماً ، كما كانت صادمة معاناة العشرات من رفاقها المرضى الذين ينتظرون الموت اسوة بها .

تحدثنا نبيهة باماجد  بضمير الطبيب المتفهم لحجم هذا الوجع وتقول :"المريض ينتظر من يومين متتاليين ، لا نستطيع عمل له جلسة غسيل بالمعايير الطبية المحددة عالمياً ، كون كل مريض من حقه عمل جلسة لمدة 4 ساعات في اليوم ، 3 جلسات في الأسبوع ، غير ان كل ما يحصل عليه كل مريض اقل من ذلك بكثير ، عبارة عن  جلستان  في الأسبوع و 3 ساعات في اليوم ، وهذا طبياً ينعكس على  صحة المريض وهو ما يزيد من  تراكم السموم والسوائل ، وتكتفي باماجد بالتعليق  هذه امكانيات  دولتنا الحالية ".

تتنقل بين اوجاع المرضى وأسرهم ،وتصافح آلمهم وآمالهم  ، تعبيراً عن تعاطفك  ، أو على اقل تقدير تنقل لهم إحساس إنساني يعتريك في لحظة تعجز بها عن مد يد المساعدة  كما تعجز الدولة عن توفير غسلة تبقيهم يوماً أظافية على قيد الحياة .

لان الامر اكبر من شهامة مواطن ، هي مسئولية بحجم دولة غائبة ، هنا يلفت انتباهك طفل بعمر 13 عام ،او كما تعتقد لوهلة انه طفل، ليتضح انه شاب يبلغ من العمر 18  ربيعاً ، وفي لحظة تحديق برئية في عيناه ، تخبرك الدكتورة نبيهة،" هذا قائد فضل ناجي ،احد مرضى الفشل الكلوي المنتظمين لدينا منذ منذ 9  أعوام ، يأتي مرتين في الاسبوع من منطقة الحبيلين  مسقط رأسه .

وحتى تفهم لماذا  ما يزال  قائد طفلا ، تجيب عليك باماجد بقولها ان " الطفل الشاب يعاني من مرض السكر إضافة إلى شبكية العين ، فيما ظروف أسرته اكثر من مأساوية، فوالدة عسكري  راتبة متوقف من عام ونصف ، يعمل في  الحرف اليدوية حتى يتمكن من احضاره الى هنا".

في عدن يوجد ثلاثة مراكز غسيل كلى ، مركز مستشفى الجمهورية ومركزين آخرين هما مركز "عبود , ومركز أخر في مستشفى الصداقة"، غير ان مركز الجمهورية يظل الوحيد القادر على العمل  بطاقه وبجهد مضاعف  ، وهو جهد يضاعف المشاكل المتعلقة بمرضى الفشل الكلوي .

وبالعودة إلى ما فصح عنه مدير المستشفى الدكتور الجرباء يقول :" المحافظات حول عدن لا تتوفر فيها مراكز غسيل كلوي لا في لحج ولا الضالع ولا يافع ولا ابين كل الحالات في تلك المحافظات تتوافد إلينا ، ومع سوء الأوضاع الإنسانية جراء الحرب في  تعز ، والحديدة ، باتت تأتي إلينا حالات من تعز ومن اب والمخا والبيضاء، فيما  المركز قدراته الفنية والايدي العاملة والاجهزة والميزانية محدودة نحن المركز الوحيد في العالم الذي يفتح أبوابه منذ  الساعة الخامسة صباحاً ويغلق الساعة 12 ليلاً وبنفس القوة البشرية والامكانيات كلة من اجل ان لا يموت المرضى".

اذاً هو الموت يحاصر مرضى الفشل الكلوي ، حيت تكتشف ان اغلب حالات الوفاة ناتجة بحسب المسئولة المباشرة عن المركز، الدكتوره نبيهة :"سبب وفاه اغلب مرضى الفشل من الارياف يعود إلى عدم مقدرتهم على  الوصول الى المدينة في المواعد المحددة، وبصوتها المبحوح تقول نبيهة : هذا مأساة غياب مراكز الغسيل في القرى والمحافظات التي من شأنها  تخفف العبء على المريض  وعلينا".

تقول باماجد التي استقبلتنا بابتسامة يغصها الكثير من الحزن وتقول بكل حسرة :نحن هنا نسابق الزمن نفتح من الساعة 5  فجراً حتى نتمكن من استيعاب اكثر عدد من المرضى واذا استمرت الاعداد بالتزايد في هذا العام يمكن نصل الى لحظة الانسداد كون إمكانياتنا  هي هي! ما  يعني أن  امكانياتنا لا تسعفنا  لزيادة عدد الجلسات للإعدا، المضاعفة والمتزايدة يومياً،  ولان مواردنا  المخصصة لم ترتفع منذ وضعها قبل الحرب وحتى اليوم ، ولكم ان تتخيلوا الى اين سيئول الية الوضع في المركز خلال العام الحالي؟!



مرضى بين الحياه والموت تكالبت عليهم الظروف القاسية ، وفساد مستشري في جسد الدولة المبعثرة والتي تهشمها الحروب والجماعات التي لا  ترحم ولم تترك رحمة الله تحل في ارضة .

مدير مستشفى الجمهورية وهو أحد  ابرز الكوادر الطبية في البلاد  يؤكد "للبعد الرابع " في حديثة غصة جراء ما يشوب عملهم الإنساني من استغلال قذر يقول : "هناك جهات اخرى تبحث عن الربح من بوابة  مرضى الغسيل الكلوي ليتسنى لها نهب المال العام المخصص لمرضى الفشل ليحولونه عبر قنوات اخرى ليس لها علاقة في الامر ومن هنا نناشد الحكومة ان تحافظ على المخصصات العامة لمرضى الفشل الكلوي رغم العجز.

مرضى الفشل الكلوي ، مأساة قابلة للربح ، مأساة متفاقمة لا تتوقف عند أمكانيات الدولة الشحيحة ، بل تتجاوز ذلك، ليأتي ارباب الفساد ، وبكل جشع، ليتاجرون بهذه المأساة ، ليزدون الطين بله ، ليتسببوا بموت العشرات من مرضى الفشل الكلوي دون أدنى رحمة أو مسؤولية أخلاقية .

بين فشل السياسات الصحية لحكومة الشرعية  ، واستمرار تدهور أوضاع الصحة العامة وهي في الأساس متردية ، يقبع زمن غائر بالمآسي ، يتوجع فيه بصمت المئات من مرضى الفشل الكلوي في مختلف محافظات اليمن.

وإلى هنا لا تنتهي المأساة ، بل تبدأ فصول أخرى من المعاناة ، التي لن تنتهي دون وجود حلول جذرية من شأنها أن تحل أهم اوجاع الدهر في البلاد المعصور بالآلم والموجوع بالفساد الحكومي الذي ينخر مؤسسات الدولة ، ولا يبالي بمأساة المئات من المتضررين من كل هذا العبث ، وتستمر الحكاية ، ويبقى الموت هو الحل الوحيد لكل الأوجاع ..