ادبــاء وكُتــاب


السبت - 24 يونيو 2023 - الساعة 10:19 م

كُتب بواسطة : مجيب الرحمن - ارشيف الكاتب




" التصَوُّفُ الإسلامِيّ هو السعيُ لبلوغِ الخلاصِ الفرديّ من خلالِ الظفرِ بــ(التوحيدِ الحقيقيّ)" هكذا ينقلُ الباحثُ " محمد رواحة" وهو أحدُ المتعمِّقينَ في التصوُّفِ وتاريخِه هو تاريخُ " الطيران للواحد الأحد" وتوثيقٌ زاخرٌ للحركاتِ الروحيّةِ والكلاميّة والأدبيّة داخلَ الإسلام"!...فالطرقُ إلى اللهِ تتعدّدُ بتعدّدِ الأنفس السائرة إليهِ و أمّا الغاية فهيَ واحدةٌ.. يُحبُّهم ويُحِبُّونَه... اللهُ يعرِفُهم بالاسمِ قبلَ أنْ يعرفُوه.

البَاحثُ التركيُّ محمد إسرافيل بن محمد رواحة، اختارتْ أُمّهُ وهي من حافظاتِ القرآنِ ومن أسرةٍ معروفةٍ بالتديُّن أنْ تُلحِقَ اسمه بلقبِ الأنصاريّ اليمانيّ (عبدالله بن رواحة) وكأنّي بها تستشرفُ المستقبلَ لابنها؛.. مَنْ سَيرِثُ الشاعريةَ وحبَّ اللغةِ العربيّةِ وآدابها، ويوغلُ في الصوفية... وفِيْ داخلِيْ بَقَايَا صُوفيّ قَدِيمٍ!

قَبْلَ أيامٍ فاجأنِي المترجمُ الشابُ " محمد رواحه" بترنّمهِ بقصيدةٍ عذبةٍ وعميقةٍ كانت جوارحي مشدوهة لها مذُ طفولتي لأنّها مختلفةٌ عن كلّ الأغاني الهابطة والتُّراثية، وكأنّي أسقطُ في عُمقِها... إحساسًا دونَ وعيٍ ويأتي "محمد رواحة" ليُترجمَها لي بمعانٍ جديدةٍ، وهل يحتاج اليعرُبي لتركي كي يُعلّمَهُ ويشرحَ له؟

شُوَيْخ مِنْ أَرْضِ مِكْناس وَسَط الْأَسْوَاق يُغْنِي
وَش عَلِيّ أَنَا مِنْ النَّاسِ وَش عَلَى النَّاسِ مِنِّي
اش عَلِيًّ يا صاحب مِنْ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ
افْعَلْ الْخَيْرَ تَنْجُ وَاتَّبَعه لِلْحَقَائِق
لَا تَقُلْ يَا ابْنِي كَلِمَة إلَّا أَنْ كُنْت صَادِق
خُذ كَلَامِي فِي قِرْطَاس واكتبه حِرْز عَنِّي
اش عَلِيّ أَنَا مِنْ النَّاسِ وَش عَلَى النَّاسِ مِنِّي

كُنّا نغبط إخوتنا في الخليج على هذه الأغنية "شُويّخْ من أرض مِكناس، وإلى وقت قريب أنتظرُ من أحد الحُذّاق أنْ ينسبَ هذهِ الأغنيةَ ولحنها إلى اليمن كما جرت العادةُ وتراثُنا المهدورُ ... وأستغرب من (أرضِ مِكناس)...إيش جاب المغربيّ على اليماني؟!... لكني أقتلُ السؤالَ وأحدّثُ نفسي: " ربّما كان هذا الشاعر مغتربًا مغربياً من (مكناس) عاش في الخليج طلباً للرزق مثل أهلِ اليمنِ المعاصرين... وكان رجلاً حكيماً... ربما"؛.... لكن كيف تغدو هذه الأغنية يمانية وصاحبُها من أهلِ المغرب؟... عندها كانت مخيِّلتي تتفنَّن في تصوُّر شاعر يماني يتكلمُ بلسانِ أحدِ الدراويش المغاربة السائحين في الأرضِ"
أمّا الباحثُ التركي (رواحة) فله رأيٌ آخر وتحليلٌ عميقٌ لهذه القصيدة الذائعة وهو المتخصِّص في الأدب الصوفي العربي، وزامَلْتُه في جامعة قرطاج العريقة كما أنه شاعر مبدعٌ وأستاذٌ في جامعته Trakya Üniversitesi التي تقع غرب تركيا على الحدود اليونانية البلغارية.

كان يحدِّثني عن (الشُشْتريّ) وكنت أعلم أنّه صوفي يلقِّبونه (عروس الفقراء)، عاش قبل سبعة قرون سائحاً في الأرض وقد يُتَّهم بالحلولية مثل الجنيد والحلاج وابن عربي، فلي تجربة متواضعة مع التصوُّف وأهله وطرائقه وأعلامه وربّما تاريخه.
وَش عَلِيّ أَنَا مِنْ النَّاسِ وَش عَلَى النَّاسِ مِنِّي

يرى رواحة في هذا البيت وهو من (الزجل ) للششتري إحدى أهم قواعد التصوُّف وهي ( العزلة ) التي هي جزءٌ من مجاهدة النفس والهوى وهي مرادفة للوحدة والخلوة وينقل عن الشبلي قوله : الزمِ الوحدة وامْحُ اسمك عن القوم واستقبل الجدار حتى تموت!

وينقل عن الشيخ أبي مدين الأنصاري الذي كان عنواناً لأطروحة الماجستير له قوله في هذا المقام: " من علامات صدق المُريد في إرادته فرارُه عنِ الخلقِ، ومن علاماتِ صدقِ فرارِه عن الخلق وجودُه للحقِّ" ...ويرى بعضهم أنّ التصوُّف هو حمايةٌ للقلب من رؤية " الأغيار" ولا وجود لــ"الأغيار" حقيقةً
يتشدَّد كثير من الصوفية على الجانب الزُّهدي للتصوُّف، قطيعةٌ تامَّةٌ مع ما يُسمَّى " الدنيا" و " الأنانية" : " أن لا تمتلك شيئاً لا يمتلكك شيءٌ""

يرى "محمد رواحة" أنّ التصوُّف مبنيٌّ على ثمانِ صفات، ممثلة بثمانية أنبياء: سخاء إبراهيم، الذي ضحَّى بابنه، وتسليم إسماعيل، الذي أذعن لأمر الله وتخلّى عن حياته العزيزة، وصبر أيوب الذي احتمل الدود ونفور الناس منه، ورمزية زكريا الذي قال له الله: " أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ...إِلَّا رَمْزًا" ثم للحقيقة نفسها : " إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)، وغربة يحيى، الذي كان غريبًا في بلده وغريبًا عن نوعه بين الذين عاش معهم، وسياحة عيسى؛ الذي كان مستغنياً فيها عن كلّ أشياء الدنيا التي احتفظ بها إلا كوبًا ومشطاً- الكوب الذي ألقاه عندما رأى رجلاً يشرب براحة يده، والمشط الذي رماه أيضاً عندما رأى إنسانا آخر يستخدم أصابعه بدلاً من المشط؛ وارتداء الصوف عند موسى الذي كان قميصه صوفاً؛ وفقر محمد صلوات ربي وسلامه عليه الذي أرسل إليه الحقُّ سبحانه مفتاح كل الكنوز التي على وجه الأرض قائلاً: " لا تُرهق نفسك، بل احصل على كل راحة بهذه الكنوز" فأجاب: " يارب لا أريدها؛ أبقني يومًا شبعاناً ويوماً جائعا"

ماذا يفعل هذا الباحث والصوفية؟ لماذا ينعشُ فيّ ذاك الصوفي القديم؟ بعد أن خلته قد مات؛ لأن السّياق السَّلفي الذي نعيشه في اليمن قد أوجد في نفسي صدًى في محاربته للكرامات؛ رغم أن سياق التصوُّف صار اليوم عالمياً.
وليس غريباً أن يكون التصوُّف:" التيار الرُّوحي العظيم الذي يتخلَّل الأديان كلها بمسمَّيات مختلفة " وفي مدلوله الأوسع يمكن أن يحدِّد بوصفه وعي الحقيقة الوحيدة سواء سُمِّيَتْ حكمةً أو نوراً أو حُبّاً أو عدَما"

نواصل نقل تحليلات الصوفي بل أقصد الباحث التركي محمد رواحة لقصيدة الزجل (شويخ من أرض مكناس) للششتري. (بإذن الله).

مجيب الرحمن الوصابي