صحافة دولية

بوينغ B-29.. قاذفة قنابل غيرت مسار الحرب العالمية الثانية والطيران المدني

الإثنين - 01 سبتمبر 2025 - الساعة 12:27 ص بتوقيت اليمن ،،،

وكالات ( البعد الرابع) غرفة الأخبار




نشر في الأثنين ,1 سبتمبر ,2025-12:27 صباحاً

كانت طائرة بوينغ B-29 Superfortress أكثر قاذفات القنابل تطوراً في الحرب العالمية الثانية، وواحدة من أغلى مشاريع الطيران العسكري على الإطلاق، إذ تجاوزت تكلفة تصميمها وبنائها تكلفة القنابل الذرية التي ألقتها على هيروشيما وناغازاكي.

لم تقتصر أهمية هذه الطائرة على الحرب، بل ساهمت في تمهيد الطريق لتطوير الطيران المدني الحديث، بما في ذلك الطائرات النفاثة والرحلات الطويلة للركاب.

لعبت بوينغ B-29 خلال الحرب العالمية الثانية، دوراً حاسماً بفضل تقنياتها المتقدمة مثل حجرات الضغط، الأبراج المدفعية التي تُتحكم عن بُعد، والمحركات فائقة القوة، مما مكّنها من القيام بمهام طويلة المدى ورفع القنابل الذرية التي ساعدت في إنهاء الحرب في المحيط الهادئ، وكانت أداة حاسمة غيرت مجريات الحرب بقدرتها على التحليق لمسافات شاسعة وارتفاعات غير مسبوقة، مكنت الولايات المتحدة من الوصول إلى قلب اليابان وإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي.

بعد الحرب، شكّل تصميمها وابتكاراتها، بما في ذلك هيكل الألمنيوم ونظام الضغط في المقصورة، أساس تطوير الطائرات المدنية الكبيرة، مثل بوينغ ستراتوكروزر، ومهد الطريق لشبكات الطيران المدني الحديث، مجسدةً بذلك جسراً بين القوة العسكرية والتقدم التكنولوجي الذي غيّر عالمنا.

قبل هجوم اليابان على بيرل هاربر، كان سلاح الجو الأمريكي يبحث عن قاذفة متقدمة، قادرة على التحليق لمسافة تصل إلى 2000 ميل (3200 كيلومتر) وبارتفاعات لم يُسجّل لها مثيل. الهدف كان بناء “قاذفة عملاقة” تستطيع تنفيذ هجمات استراتيجية على أعماق العدو، مع إمكانية إلقاء القنابل الذرية عند الحاجة. وبينما كانت الحرب مشتعلة في أوروبا، شعرت الولايات المتحدة بأنها ستُجرّ حتماً إلى النزاع، فبدأت التحضيرات لمشروع القاذفة الضخمة.

تواصل سلاح الجو الأمريكي مع خمس شركات طائرات، من بينها دوغلاس ولوكهيد، إلا أن تعقيدات المشروع دفعت شركتين للانسحاب. أما بوينغ، فقد بدأت العمل على تصميمها الخاص منذ سنوات، مستغلة خبرتها الكبيرة في صناعة الطائرات الضخمة. وبعد منافسة شديدة، فاز مشروع XB-29 ليصبح فيما بعد الطائرة B-29 Superfortress. إلا أن دخولها الخدمة استغرق أربع سنوات إضافية، ليكون هذا المشروع الصناعي الأكثر تكلفة وتعقيدًا في تاريخ الصناعة الأمريكية حتى وقتها، حيث بلغت تكلفته الإجمالية، بحسب الأسعار الحالية، ما يعادل 55.6 مليار دولار، وفق تقريرة نشره موقع “BBC”.

الابتكار التكنولوجي والضغوط التشغيلية

أحد التحديات الرئيسية كان تحقيق قدرة الطائرة على التحليق لارتفاعات شاهقة تصل إلى 30 ألف قدم، وهو ارتفاع لم يسبق لطائرات الحرب أن وصلت إليه بكثافة وقوة محركات كافية. ارتفاع الطائرة يقلل من كثافة الهواء، مما يجعل التنفس صعباً على الطاقم. ولحل هذه المشكلة، لجأت بوينغ إلى مفهوم الضغط في المقصورة لأول مرة على نطاق الإنتاج التجاري والعسكري. أصبحت مقصورات الطائرة مضغوطة، مماثلة لضغط الهواء عند سطح الأرض، مما أتاح للطاقم التنقل والعمل دون الحاجة لأقنعة أكسجين ثقيلة أو بدلات طيران ضخمة.

تضمنت الطائرة ثلاث حجرات منفصلة للطاقم المكون من 11 فرداً، مقدمة للطيران والملاحة والملاحة بالقنابل والراديو، وأخرى وسطى للمدفعيين، وثالثة خلفية لمراقبة المحركات وحجرة القنابل. وفُرِشَت المقصورات بالوسائل اللازمة لضمان استمرارية العمل لفترات طويلة، بما في ذلك مرحاض كيميائي وأسرّة للراحة.

أنظمة الدفاع والهجوم

تم تجهيز الطائرة بنظام جديد للتحكم في المدافع عن بعد، وهو ابتكار قلّ نظيره آنذاك. فقد أصبح بإمكان المدفعيين توجيه المدافع باستخدام رادار متقدم يحسب سرعة الرياح، ودرجة حرارة الهواء، ومسار الطلقات، مما زاد دقة الإصابة بشكل كبير. كانت الأبراج المدفعية قابلة للسحب لتقليل مقاومة الهواء عند عدم الحاجة إليها، مما عزز الأداء الديناميكي للطائرة.

تحديات المحركات

كانت B-29 تعتمد على أربعة محركات ضخمة من نوع R-3350 Duplex Cyclone بثمانية عشر أسطوانة، لتوفير القوة المطلوبة للطيران لمسافات طويلة. لكن هذه المحركات المعقدة كانت عرضة للاشتعال، خاصة عند الاستخدام المطول أو في درجات الحرارة المرتفعة. خلال الاختبارات، شهدت الطائرة عدة حوادث مأساوية، منها تحطم الطائرة الثانية خلال اختبار المحرك في 1943، مما أسفر عن وفاة الطاقم بالكامل وعدد من المدنيين القريبين.

لمواجهة هذه الصعوبات، نفذ الجنرال هاب أرنولد خطة إنقاذ عُرفت بـ “معركة كانساس”، حيث جُمِع أفضل المهندسين والفنيين لإعادة بناء الطائرات وتجهيزها للطيران، بما في ذلك إصلاح أكثر من نصف مليون قابس كهربائي وتعديل مئات التفاصيل الدقيقة في المحركات. بعد خمسة أسابيع من العمل المكثف، أصبحت الطائرات جاهزة للانتشار.

مهام الحرب

دخلت B-29 الخدمة بعد أكثر من ثلاث سنوات على بدء تصميمها، وانطلقت أولى مهامها من قواعد في جنوب غرب الصين نحو اليابان. وكانت مهمتها الأكثر جدلية استخدام القنابل الحارقة على المدن اليابانية قبل أشهر من القنابل الذرية، مثل غارة طوكيو في مارس 1945 التي أودت بحياة نحو 100 ألف شخص، وهو رقم يفوق خسائر القنابل الذرية التي أعقبتها.

التأثير على الطيران المدني

بعد الحرب، واصلت B-29 خدمتها العسكرية في كوريا، كما استُخدمت في مهام التزويد بالوقود جواً للطائرات الأخرى. لكن الأثر الأهم كان على الطيران المدني: فقد استُخدمت كقاعدة لتطوير بوينغ ستراتوكروزر 377، أول طائرة ركاب كبيرة مزودة بمقصورة مضغوطة، قادرة على نقل أكثر من 100 راكب، لتصبح النموذج الأول للطائرات المدنية طويلة المدى.

كما أدت الحاجة إلى مدارج واسعة لإقلاع B-29 إلى تشييد شبكات مطارات عالمية، أسهمت في ازدهار الطيران المدني خلال خمسينيات القرن الماضي. وبفضل ابتكاراتها في أنظمة الضغط والهندسة الهيكلية، أصبح بالإمكان تصميم طائرات ركاب أكبر وأكثر أمانًا، ما مهد لعصر الرحلات الدولية المنتظمة.

إرث الطائرة

من بين نحو 4000 طائرة B-29 تم إنتاجها، لم يتبق اليوم سوى 22 نموذجاً، بما في ذلك اثنان لا يزالان يحلقان في العروض الجوية بالولايات المتحدة. وواحدة من هذه الطائرات موجودة في متحف الحرب الإمبراطوري في دوكسفورد، المملكة المتحدة، وتحمل اسم “Its Hog Wild”. وقد شاركت هذه الطائرة في الحرب الكورية أيضًا، مؤكدة استمرار دورها في التاريخ العسكري والجوي.

رحلة هذه الطائرة من التصميم المبتكر إلى الإنتاج الضخم، مروراً بالتحديات الهندسية والمأساة البشرية، تثبت كيف يمكن للتكنولوجيا أن تتقدم بسرعة تحت ضغط الحرب، وكيف يمكن لمشروع عسكري أن يؤثر في حياة المدنيين ويغير وجه الطيران العالمي.

طائرة B-29 كانت أكثر من مجرد آلة حرب؛ إنها مثال حي على قدرة الابتكار البشري على تحويل التحديات المستحيلة إلى إنجازات ملموسة. على الرغم من دورها في واحدة من أكثر الفصول تدميراً في التاريخ، فإن إرثها التقني والحضاري يمتد حتى يومنا هذا، فهي منصة ابتكار شكلت السفر الجوي العالمي وساعدت على تقليص حجم العالم بشكل لم يسبق له مثيل