متابعات (البعد الرابع) غرفة الأخبار
نشر في الأربعاء, 23 يوليو ,2025-03:27 مساءً
لم يكن المهندس بنيامين ريفكوليفسكي، يتصور يوماً ما أن تتضمن مهامه الوظيفية لقاءات شبه أسبوعية مع وزراء التحول الرقمي في دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن الرئيس التنفيذي لشركة «أو.في.إتش كلاود»، المختصة في خدمات الحوسبة السحابية، يجد نفسه اليوم أمام موجة غير مسبوقة من الاهتمام السياسي، بعد أن بدأ قادة الاتحاد الأوروبي ينتبهون تدريجياً لحجم اعتمادهم المفرط على شركات التكنولوجيا الأمريكية في البنية التحتية التي تشغل كل شيء، من أنظمة الرعاية الصحية إلى الدفاع الوطني.
ويقول ريفكوليفسكي: «لقد كنا نتحدث عن معركة السيادة الرقمية طيلة العقدين الماضيين»، مضيفاً أنه منذ انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغيرت نبرة النقاشات السياسية و«نحن نعيش اليوم بالفعل في عالم مختلف».
وتواجه أوروبا حالة من عدم اليقين بشأن الالتزام طويل الأمد لرئيس الولايات المتحدة بالتحالف الأمني عبر الأطلسي، كما أنه يميل في المفاوضات إلى الخلط بين قضايا التجارة والدفاع والتنظيم.
علاوة على ذلك، زاد ترامب قلق الحكومات والشركات الأوروبية بشأن الخصوصية والوصول للبيانات، وأثار مخاوف من أن الولايات المتحدة قد تعلق أو تمنع عمل شركات التكنولوجيا الأمريكية في أوروبا كلها.
وأعمال هذه الشركات عميقة وواسعة النطاق، حيث تستحوذ «أمازون» و«مايكروسوفت» و«غوغل» على أكثر من ثلثي سوق الخدمات السحابية الأوروبية، فيما تفرض «غوغل» و«أبل» سيطرتهما شبه المطلقة على أنظمة الهواتف المحمولة، وتستأثر «غوغل» بسوق البحث العالمي على الإنترنت.
أما «تشات جي بي تي» من «أوبن إيه آي» فيتربع على عرش روبوتات المحادثة الذكية في أوروبا، وغالبية منصات التواصل الاجتماعي التي يستخدمها ملايين الأوروبيين مملوكة لشركات أمريكية.
كذلك الحال في مجال الدفاع، فقد أصبح الاعتماد الأوروبي على التكنولوجيا الأمريكية عبئاً جيوسياسياً، وهو ما أحيا الدعوات القديمة لتكثيف الاستثمارات الأوروبية في هذا القطاع، وإعطاء الأولوية للشركات المحلية في المناقصات الحكومية.
وفي إشارة رمزية إلى هذا الوعي الجديد، أُضيف لقب «السيادة التكنولوجية» إلى منصب هينا فيرككونين، المفوضة الأوروبية الجديدة للتكنولوجيا، والتي بدأت عملها في ديسمبر.
وتطمح هذه السياسية الفنلندية إلى تركيز الجهود على تعزيز استقلالية أوروبا في مجالات مثل الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، وقالت مؤخراً: «هذه تقنيات حيوية، ومن الضروري أن نطور قدراتنا الذاتية فيها».
من جانبه، يقول ماكس فون تون، مدير الشراكات الأوروبية والأطلسية في معهد الأسواق المفتوحة، إن استخدام الحكومات التبعية التكنولوجية كسلاح، وهيمنة شركات التكنولوجيا الأمريكية على السوق «يبرز بشكل لم يسبق له مثيل حاجة أوروبا إلى بناء وتعزيز قطاع تكنولوجي أوروبي محلي مستقل ومنفتح ومرن».
إلا أن أوروبا، وهي تنتقل من مرحلة تشخيص المشكلة إلى طرح الحلول المحتملة، يجب عليها أيضاً التعامل مع حقيقة الافتقار إلى البدائل المحلية. فعدد الشركات الأوروبية بين أكبر 50 شركة تكنولوجية عالمياً قليل.
وتواجه الشركات الناشئة في القارة العجوز عقبات جمة تتراوح بين ضبابية التشريعات والتشرذم ونقص خيارات التمويل اللازمة للنمو، خاصة في رأس المال المخاطر.
ولخص داريوش ستاندرسكي، وزير الدولة بوزارة الشؤون الرقمية البولندية، الذي ترأس اجتماعات وزراء الرقمنة خلال فترة الرئاسة البولندية الدورية للاتحاد، هذه المعضلة بقوله: «عندما تطلب شراء منتجات أوروبية، فأنت بحاجة أولاً إلى وجود ما يتم إنتاجه بالفعل داخل الاتحاد الأوروبي».
وكان تقرير تاريخي حول القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي، أصدره رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي العام الماضي، كشف بوضوح أن اتساع فجوة الإنتاج بين أوروبا والولايات المتحدة يعود أساساً إلى ضعف التكتل الأوروبي في مجال التقنيات الناشئة.
وأكد آندي ين، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة «بروتون»، التي تتخذ من جنيف مقراً لها وتشتهر بتطبيقاتها المتعلقة بالخصوصية مثل «بروتون ميل»، فيؤكد أن النقاش حول دعم شركات التكنولوجيا الأوروبية المحلية يتمحور حول هذه النقطة تحديداً.
وأوضح قائلاً: «إن لم نستثمر في التكنولوجيا في أوروبا، فإننا ببساطة نختار الانسحاب من أكبر محرك للنمو الاقتصادي في عصرنا»، مضيفاً: «هذه الشركات هي التي ستخلق فرص العمل عالية الأجر، وستدر الأرباح والإيرادات الضخمة التي ستمكننا من تمويل منظومتنا الاجتماعية».
ويقدم الذكاء الاصطناعي الفرنسي في ميسترال مثالاً لمعاناة أوروبا في مساعيها للاستفادة من البدايات الواعدة في تكنولوجيا الجيل التالي.
فبعد أن كانت تعتبر ذات يوم مرشحة لتكون رائداً عالمياً في الذكاء الاصطناعي، تراجعت ميسترال وفقدت موقعها لصالح منافسين أمريكيين مدعومين من عمالقة التكنولوجيا.
كما فوجئت، شأنها شأن العديد من الشركات الأوروبية الأخرى، بالإمكانات المتقدمة التي أظهرتها شركة «ديب سيك» الصينية.
وتكافح أوروبا لتحقيق التوازن بين تنظيم الذكاء الاصطناعي وجذب الاستثمارات والمواهب لتعزيز قدراتها الحوسبية.
ويؤدي ذلك مباشرة إلى ملف الحوسبة السحابية، الذي يمثل أولوية قصوى عندما يتعلق الأمر بتقليص الاعتماد على مجموعات التكنولوجية الأمريكية.
فمع التحول المتسارع للحكومات والشركات والأفراد نحو نقل بياناتهم من الخوادم التقليدية إلى البيئات السحابية، أصبحت مراكز البيانات وما يرتبط بها من بنى تحتية حيوية للغاية في الحياة الحديثة.
وتهيمن الشركات الأمريكية على سوق الحوسبة السحابية في أوروبا، ما يثير قلق صناع السياسات وقادة القطاع الصناعي في القارة، خاصة في ظل المخاوف من أن يستخدم «قانون الحوسبة السحابية» الأمريكي كأداة تمنح إدارة ترامب القدرة على ممارسة نفوذ أكبر للتحكم في البيانات الأوروبية، حتى المخزنة على خوادم داخل الاتحاد الأوروبي.
ويتفاقم القلق الأوروبي مع تحول الموقف الأمريكي من مجرد التذمر من القيود التنظيمية الأوروبية في قطاع التكنولوجيا إلى تحدي هذه القرارات صراحة و«ربط ذلك بتهديدات تتعلق بالرسوم الجمركية، وربطها أحياناً بقرارات أمنية قد تؤثر سلباً على القارة»، بحسب تعبير زاك مايرز بمركز تنظيم السياسات في أوروبا.
ولذلك، تجري المؤسسات الهامة، بما في ذلك المفوضية الأوروبية محادثات حالياً مع شركات مثل «أو في إتش كلاود» لنقل بعض خدماتها السحابية بعيداً عن الشركات الأمريكية، سعياً نحو تكريس الاستقلالية الرقمية الأوروبية.
وفي وقت لاحق من العام، ستقدم المفوضية الأوروبية مشروع قانون جديد يهدف لسد الفجوة في قدرات البنية التحتية السحابية والذكاء الاصطناعي، بما في ذلك إجراءات محددة لزيادة قدرة المعالجة الآمنة لمزودي الخدمات السحابية في الاتحاد الأوروبي.
ولا يزال مسؤولو الاتحاد الأوروبي يفكرون كيف يمكنهم تضمين نصوص تشريعية لشراء المنتج الأوروبي، بهدف تفضيل الشركات الأوروبية على الأمريكية، مع الاستمرار في احترام اتفاقية منظمة التجارة العالمية بشأن المشتريات الحكومية، التي تتطلب النظر في العطاءات المحلية والخارجية على قدم المساواة.
ويقول المؤيدون لهذه الخطوة إنها ستدفع الاستثمارات نحو شركات التكنولوجيا الأوروبية، وتسهم في تعزيز النظام البيئي التقني داخل الاتحاد، وتسريع بناء بدائل قادرة على منافسة المزودين الأمريكيين، لكن التجارب السابقة لا تبعث على التفاؤل.
فقد حاول الاتحاد الأوروبي في مرات سابقة تطبيق سياسة صناعية موحدة في مجالات مثل الحوسبة السحابية، دون أن يحقق نجاحاً يذكر.
وهناك مؤشرات متزايدة على توجه أوروبا.
فقد أعلن الاتحاد صراحة رغبته في أن تستبعد حكومات التكتل العروض الأجنبية من المناقصات الحكومية في توجيهها القادم بشأن المشتريات العامة، والذي أطلق عليه ستيفان سيجورنيه، المفوض الأوروبي لشؤون الازدهار الصناعي، اسم «قانون اشتر الأوروبي».
وقال سيجورنيه، وزير الخارجية الفرنسي السابق والحليف المقرب للرئيس إيمانويل ماكرون، في وقت سابق، إنه يرى أن تفضيل مقدمي العطاءات الأوروبيين في المشتريات العامة «خطوة أولى».
ورغم تحفظه على الإفصاح عما إذا كان سيضغط لتضمين مثل هذه البنود في المبادرة السحابية المقبلة، قال سيجورنيه إن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات في المجالات التي يعتمد فيها القطاع الخاص في أوروبا بشكل كلي على بلد واحد.
وكان مارك فيراشي، وزير الصناعة الفرنسي، أكثر تحديداً، حيث قال للصحفيين إنه يجب تطبيق بنود «اشتر الأوروبي» على الصناعات الحيوية